الورقات في أصول الفقه
للإمام الجويني (توفي ٤٧٨ هـ)
أَما بَعْدُ فَهَذِهِ وَرَقَات تَشْتَمِلُ عَلَى مَعْرِفَةِ فُصُولٍ مَنْ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَذَلِكَ مُؤَلَّف مِنْ جُزْءَيْنِ مُفْرَدَيْنِ، فالأَصْلُ: ما يُبْنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَالْفَرْعُ: مَا يُبْنَى عَلَى غَيْرِهِ، وَالْفِقْهُ: مَعْرِفَةُ الأحكَامِ الشّرْعِيَّةِ الَّتِي طَرِيقُهَا الاجْتِهَادُ.
وَالأحْكَامُ سَبْعَة: الْوَاجِبُ، وَالمَنْدُوبُ، والْمُبَاحُ، والْمَحْظُورُ، وَالمَكْرُوهُ، وَالصَّحِيحُ، وَالْفَاسِدُ.
فَالْوَاجِبُ: مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ، وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ.
وَالْمَنْدُوبُ: مَا يُثَاب عَلَى فِعْلِهِ، وَلا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ.
وَالْمَحْظُورُ: مَا يُثَابُ عَلَى تَرْكِهِ وَيُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ.
وَالْمُباحُ: مَا لا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ، وَلا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ.
وَالْمَكْرُوهُ: مَا يُثَابُ عَلَى تَرْكِهِ، وَلا يُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ.
وَالصَحِيحُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النُّفُوذُ وَيُعْتَدُّ بِهِ.
وَالْبَاطِلُ: مَا لا يَتَعَلَّقُ بِهِ النُّفُوذُ وَلا يُعْتَدُّ بِهِ.
وَالْفِقْهُ: أَخَصُّ مِنَ العِلْمِ، وَالْعِلْمُ: مَعْرِفَةُ الْمَعْلُومِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ في الْوَاقِعِ.
وَالْجَهْلُ: تَصَوُّرُ الشَّيْءِ عَلَى خِلافِ مَا هُوَ فِي الْوَاقِعِ.
وَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ: مَا لا يَقَعُ عَنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلال.
وَأَمَّا الْعِلْمُ الْمُكْتَسَبُ: فَهُو الْمَوْقُوفُ عَلَى النَّظَرِ وَالاسْتِدْلالِ.
وَالنَّظَرُ: هُوَ الْفِكْرُ فِي الْمَنْظُورِ فِيهِ.
وَالاسْتِدْلالُ: طَلَبُ الدَلِيلِ.
وَالدَّلِيلُ: هُوَ الْمُرْشِدُ إِلَى الْمَطْلُوبِ.
وَالظَّنُّ: تَجْوِيزُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَظْهَرُ مِنَ الآخَرِ.
وَالشَّكُّ: تَجْوِيزُ أَمْرَيْنِ لا مَزِيَّةَ لأحًدِهِمَا عَلَى الآخَرِ.
وَأُصُولُ الْفِقْهِ: طُرُقُهُ عَلَى سَبِيلِ الإِجْمَالِ، وَكَيْفِيَّةُ الاستِدْلالِ بِهَا.
وأَبْوَابُ أُصولِ الْفِقْهِ: أَقْسَامُ الْكَلامِ، وَالأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَالعَامُّ، وَالخَاصُّ، وَالمُجْمَلُ وَالْمُبَينُ، وَالنَّصُّ وَالظَّاهرُ، وَالأَفْعَالُ، وَالنَّاسِخُ، وَالْمَنْسوخُ، وَالإجْمَاعُ، وَالأَخْبَارُ، وَالْقِياسُ، وَالْحَظْرُ وَالإبَاحَةُ، وَتَرْتِيبُ الأدَلَّةِ، وَصِفَةُ الْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي، وَأَحْكَامُ الْمُجْتَهِدينَ.
فَأَقَلُّ مَا يَتَرَكبُ مِنْهُ الْكَلامُ: اسْمَانِ، أَوْ اسْمٌ وَفِعْل، أَوْ فِعْلٌ وَحَرْف، أَوْ اسْمٌ وَحَرْف.
وَالْكَلامُ يَنْقَسِمُ إِلى: أَمْرٍ، وَنَهْيٍ، وَخَبَرٍ، وَاسْتِخْبَارٍ، وَيَنْقَسِمُ أَيْضاً إِلَى تَمَنٍ، وَعَرْضٍ، وَقَسَمٍ.
وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ يَنْقَسِمُ إِلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ.
فَالْحَقِيقَةُ: مَا بَقِيَ فِي الاسْتِعْمَالِ عَلَى مَوْضُوعِهِ. وَقِيلَ: مَا اسْتُعْمِلَ فِيمَا اصْطُلِحَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُخَاطَبَةِ.
وَالْمَجَازُ: مَا تُجُوِّزَ بِهِ عَنْ مَوْضُوعِهِ.
وَالْحَقِيقَةُ: إِمَّا لُغَوِيَّةٌ، وَإِمَّا شَرْعِيَّةٌ، وَإمَّا عُرْفِيَّةٌ.
وَالْمَجَازُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بزِيَادَةٍ، أَوْ نُقْصَانٍ، أَوْ نَقْلٍ، أَوْ اسْتِعَارَةٍ.
فَالْمَجَازُ بِالزِّيَادَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: { لَيس كَمِثلهِ شَيءٌ }.
وَالْمَجَازُ بِالنُّقْصَانِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: { وَسئَلِ اَلقَريَةَ }.
وَالْمَجَازُ بِالنقل كَالغَائِطِ فِيمَا يَخْرُجُ مِنَ الإِنْسَانِ.
وَالْمَجَازُ بِالاستِعَارَة كَقَوْلِهِ تَعَالَى: { جِدَاراً يُرِيدُ أَن ينَقَضَّ }.
وَالأمرُ: اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ بِالقَوْلِ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ عَلَى سبِيلِ الْوُجُوبِ، وَالصِّفَةُ الدَّالّةُ عَلَيْهِ: افْعَلْ، وَهِيَ عِنْدَ الإِطْلاقِ وَالتَّجَرُّدِ عَنِ الْقَرِينَةِ تُحْمَلُ عَلَيْهِ، إِلا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ المُرَادَ مِنْهُ النَّدْبُ أَوْ الإِبَاحَةُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ. وَلا يَقْتَضي التَّكْرَارَ عَلَى الصَّحِيحِ إِلا إذا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى قَصْدِ التكْرَارِ، وَلا يَقْتَضِي الْفَوْرَ، وَالأمرُ بِإيجَادِ الْفِعْلِ أَمْرٌ بِهِ وَبِمَا لا يَتِمُّ الْفِعْلُ إِلا بِهِ، كَالأَمْرِ بِالصلَوَاتِ أمْرٌ بِالطَّهَارَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلْيَهَا وَإِذَا فُعِلَ يَخْرُجُ الْمَأْمُورُ عَنْ الْعُهْدَةِ.
الَّذِي يَدْخُلُ فِي الأمرِ وَالنَّهْي، وَمَا لا يَدْخُل
يَدْخُلُ فِي خِطَابِ اللَّه تَعَالَى الْمُؤمِنُونَ ؟ وَالسَّاهِي، وَالصَّبِيُّ، وَالْمَجْنُونُ غَيْرُ دَاخلِينَ في الْخِطَابِ. وَالكُفَّارُ مُخَاطبُونَ بِفرُوعِ الشَّرَائِعِ، وَبِمَا لا تَصحُّ إلا بِهِ - وَهُوَ الإِسْلامُ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: { مَا سَلَككم فِي سَقَرَ قَالوُا لم نَكُ مِن المُصَلِّين }. وَالأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الشَّيْءٍ أَمْرٌ بِضِدِّهِ.
وَالنهْيُ: اسْتِدْعَاءُ التَّرْكِ بِالْقَوْلِ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ عَلَى سبِيلِ الْوُجُوبِ.
وَتَرِدُ صِيغَةُ الأَمْرِ وَالْمُرَادُ بِهِ الإِبَاحَةُ، أَوْ التَهْدِيدُ، أَوْ التَّسْوِيَةُ، أَوْ التَّكْوِينُ.
الْعامُّ وَالخَاصُّ وَالمجملُ وَالمُبِين وَالنَّصُ وَالظاهر
وَأَمَّا الْعَامُّ: فَهُوَ مَا عَمَّ شيْئَيْنِ فَصَاعِداً مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ، وَأَلْفَاظَهُ أَرْبَعَة: الاسْمُ الْمُعَرّفُ بِالألَفِ وَاللامِ، وَاسْمُ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفُ بِاللامٍ، وَالأَسْمَاء الْمُبْهَمَةُ كَمَنْ فِيمَنْ يَعْقِلُ، وَمَا فِيمَا لا يَعْقِلُ، وَأَيٍّ فِي الْجَمِيع، وَأَيْنَ فِي الْمَكَانِ، وَمَتَى فِي الزَّمَانِ، وَمَا فِي الاسْتِفْهَامِ وَالْجَزَاءِ وَغَيْرِهِ، وَلا في النَّكِرَاتِ.
وَالْعُمُومُ مِنْ صِفَاتِ النُّطْقِ، وَلا يَجُوزُ دَعْوَى الْعُمُومِ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْفِعْلِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ.
وَالْخَاصُّ يُقَابِلُ الْعَامَّ، وَالتَّخْصِيصُ: تَمْيِيزُ بَعْضِ الْجُمْلَةِ، وَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى مُتَّصِلٍ وَمُنْفَصِلٍ، فَالْمُتَّصِلُ: الاسْتثْنَاءُ، وَالشَّرْطُ، وَالتَقْيِيدُ بِالصِّفَةِ.
وَالاسْتِثْنَاءُ: إِخْرَاجُ مَا لَوْلاهُ لَدَخَلَ فِي الكَلامِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الاسْتِثْنَاءُ بِشَرْطِ أَنْ يَبْقَى مِنَ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ شَيْءٌ، وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلاً بِالْكَلامِ، وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ الْمُسْتَثْنى عَلَى الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، وَيَجُوزُ الاسْتِثْنَاءُ مِنَ الجِنْسِ وَمِنْ غَيْرِهِ.
وَالشَّرْطُ يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى الْمَشْرُوطِ.
وَالْمُقَيَّدُ بِالصِّفَةِ يُحملُ عَلَيْهِ الْمُطْلَقُ كَالرَّقَبَةِ قُيِّدَتْ بِالإِيمَان فِي بَعضِ الْمَوَاضعِ فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ.
وَيَجُوزُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالكَتَابِ، وَتَخْصِيصُ الكِتَابِ بِالسُّنَّةِ، وَتَخْصِيصُ السُّنَّةِ بِالكِتَابِ، وَتَخْصِيصُ السُّنِّةِ بالسُّنَّة، وَتَخْصِيصُ النُّطْقِ: بِالْقِيَاسِ، وَنَعْنِي بِالنُّطْقِ: قَوْلَ اللّهِ تَعَالَى وَقَوْلَ الرَّسُولِ صَلَى اللَّهُ عَليهِ وَسلَّم.
وَالمُجْمَلُ: مَا يَفْتَقِرُ إلى الْبَيَانِ.
وَالْبَيَانُ: إخْرَاجُ الشَّيْءِ مِنْ حَيِّزِ الإِشْكَالِ إِلَى حَيِّزِ التَّجَلِّي.
وَالنصُّ: مَا لا يَحْتَمِلُ إِلا مَعْنًى وَاحِداً، وَقِيلَ: مَا تَأْوِيلُهُ تَنْزِيلُهُ، وَهُوَ مُشْتَقٌ مِنْ مِنَصَّةِ الْعَرُوسِ، وَهُوَ الْكُرْسيّ.
وَالظَّاهِرُ: مَا احْتَمَلَ أَمْرَيْنِ: أحَدُهُمَا أَظْهَرُ مِنَ الآخَرِ، وَيُؤَوَّلُ الظَّاهِرُ بِالدَّلِيلِ، وَيُسَمَّى ظَاهِراً بِالدَّلِيلِ.
الأفعال
فِعْلُ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَالطَّاعَةِ، أَوْ لا يَكُونَ، فَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى الاخْتِصَاصِ بِهِ حُمِلَ عَلَى الاخْتِصَاصِ، وَإنْ لَمْ يَدُلَّ دَلِيل لا يُخَصُّ بِهِ، لأنَّ اللّهَ تَعَالَى قَالَ: { لَّقَد كاَنَ لَكُم فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة }، فَيُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُتَوَقَّفُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَالطَّاعَةِ فَيُحْمَلُ عَلَى الإِبَاحَةِ.
وَإِقْرَارُ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ عَلَى الْقَوْلِ هُوَ قَوْلُ صَاحِبِ الشرِيعَةِ، وَإِقْرَارُهُ عَلَى الْفِعْلِ كَفِعْلِهِ، وَمَا فُعِلَ فِي وَقْتِهِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِهِ وَعَلِمَ بِهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ فحكْمُهُ حُكْمُ مَا فُعِلَ فِي مَجْلِسِهِ.
النسخ
وَأَمَّا النَّسْخُ: فَمَعْنَاهُ الإِزَالَةُ، يُقَالُ: «نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّل»، إِذَا أَزَالَتْهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ النَّقْلُ مِنْ قَوْلِهِمْ: «نَسَخْتُ مَا فِي الْكِتَابِ»، إِذَا نَقَلْتَهُ بِأَشْكَالِ كِتَابَتِهِ.
وَحَدُّهُ: الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى رَفْعِ الْحُكْمِ الثَّابتِ بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى وَجْهٍ لَوْلاهُ لَكَانَ ثَابِتاً، مَعَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ. وَيَجُوزُ نَسْخُ الرَّسْمِ وَبَقَاءُ الْحُكْمِ، وَنَسْخُ الْحُكْمِ وَبَقَاءُ الرَّسْمِ، وَنَسَخُ الأَمْرَيْنِ مَعاً.
وَيَنْقَسِمُ النَّسْخُ إِلَى: بَدَلٍ، وَإِلَى غَيْرِ بَدَلٍ، وَإِلَى مَا هُوَ أَغْلَظُ، وَإِلَى مَا هُوَ أَخَفُّ.
وَيَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ، وَنَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ، وَيَجُوزْ نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْمُتَوَاتِرِ، وَنَسْخُ الآَحَادِ بِالآحَادِ وَبِالْمُتَوَاتِرِ، وَلا يَجُوزُ نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بالآحادِ.
فصل
إِذَا تَعَارَضَ نُطْقَانِ فَلا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَا عَامَّيْنِ، أَوْ خَاصَّيْنِ، أَوْ أَحَدُهُما عَامَّاً وَالآخَرُ خَاصَّاً، أَوْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُما عَامَّا منْ وجْهٍ خَاصَّاً مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
فَإِنْ كَانَا عَامَّيْنِ فَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا يُجْمَعْ، فإنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ يُتَوَقّفْ فِيهِمَا إِنْ لَم يُعْلَمِ التَارِيخُ، فَإنْ عُلِمَ التَّارِيخُ نُسِخَ الْمُتَقَدِّمُ بِالْمُتأَخِّرِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَا خَاصَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَامَّاً وَالآخَرُ خَاصَّا فَيُخَصُّ الْعَامُّ بِالْخَاصِّ، وَإِنْ كَان كُلُّ مِنْهُمَا عَامَّاً مِنْ وَجْهِ وَخَاصَّاً مِنْ وَجْهٍ فَيُخَصُّ عُمُومُ كلّ مِنْهُمَا بِخُصُوص الآخَرِ.
الإجماع
وَأَمَّا الإجْمَاعُ فَهُوَ: اتِّفَاقُ عُلَمَاءِ أَهْلِ العَصْرِ عَلَى الْحَادِثَةِ، وَنَعْنِي بِالْعُلَمَاءِ الْفُقَهَاءَ، وَنَعْنِي بِالْحَادِثَةَ: الْحَادِثَةَ الشَّرْعِيَّةَ. وَإِجْمَاعُ هَذِهِ الأُمَّةِ حُجَّة دُونَ غَيْرِهَا ؟ لِقَوْلِهِ: «لا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلالَةٍ».
وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِعِصْمَةِ الأُمَّةِ، وَالإجْمَاعُ حُجَّة عَلَى الْعَصْرِ الثَّانِي، وَفِي أَيِّ عَصْرٍ كَانَ، وَلا يُشْترَطُ فِي حُجِّيَّتِهِ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ، فَإِنْ قُلْنَا: «انْقِرَاضُ الْعَصْرِ شَرْط»، يُعْتَبَرُ قَوْل مَنْ وُلدَ فِي حَيَاتِهِمْ، وَتَفَقَّه وَصَارَ مِنْ أَهْلِ الاجْتهَادِ، وَلَهُمْ - عَلَى هَذَا الْقَوْلِ - أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ ذلِكَ الْحُكْمِ، وَالإجْمَاعُ يَصِحُّ بقَوْلِهِمْ، وَبِفِعْلِهِمْ، وَبِقَوْلِ الْبَعْض وَبِفعْلِ الْبَعْضِ وَانتشَارِ ذَلِكَ القَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ وَسُكُوتِ الْبَاقِينَ عَلَيْهِ. وَقَوْلُ الْوَاحِدِ مِنْ الصَّحَابَةِ لَيْسَ حُجَّةً عَلَى غَيْرِه، عَلَى الْقَوْلِ الْجَدِيدِ.
الأخبار
وَأَمَّا الأخبَارُ فَالْخَبَرُ: ما يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ.
وَالْخَبَرُ يَنْقَسِمُ إِلَى: آحَادٍ، ومُتَوَاتِرٍ.
فَالْمُتَوَاتِرُ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ، وَهُوَ: أَنْ يَرْويَهُ جَمَاعَة لا يَقَعُ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ عَنْ مِثْلِهِمْ، وَهَكَذَا إِلَى أنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الْمُخْبَرِ عَنْهُ، فَيَكُونُ فِي الأصلِ عَنْ مُشَاهَدَةٍ أَوْ سمَاعٍ، لا عَنِ اجْتِهَادٍ.
وَالآحَادُ - وَهُوَ الَّذِي يُوجِبُ الْعَمَلَ، وَلا يُوجِبُ الْعِلْمَ، لاحْتِمَالِ الْخَطَإِ فِيهِ، وَيَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: مُرْسَلٍ، وَمُسْنَدٍ، فَالْمُسْنَدُ: مَا اتَّصَلَ إِسنَادُهُ، وَالْمُرْسلُ: مَا لَمْ يَتَّصِلْ إِسْنَادُهُ، فَإِنْ كَانَ مِنْ مَرَاسيلِ غَيْرِ الصَّحَابَةِ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ، إِلا مَرَاسيلَ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ فَإنَّها فُتِّشَتْ فَوُجِدَتْ مَسَانِيدَ.
وَالْعَنْعَنَةُ تَدْخُلُ عَلَى الإِسْنَادِ.
وَإِذَا قَرَأَ الشَّيْخُ يَجُوزُ لِلْرَّاوِي أَنْ يَقُولَ حَدَّثَنِي أَوْ أَخْبَرَنِي، وَإنْ قَرَأَ هُوَ عَلَى الشَّيْخِ فَيَقُولُ: أَخْبَرَنِي. وَلا يَقُولُ حَدَّثَنِي، وَإِنْ أَجَازَهُ الشَّيْخُ مِنْ غَيْرِ قِرَاءَةٍ فَيَقُولُ الرَّاوِي: أَجَازَنِي، أوْ أَخْبَرَنِي إِجَازَةً.
القياس
وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَهُوَ: رَدُّ الْفَرْعِ إِلَى الأَصْلِ بِعِلّةٍ تَجْمَعُهُمَا فِي الْحُكْمِ.
وَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلاثَةِ أقْسَامٍ: إلَى قِيَاسِ عِلّةٍ، وَقِيَاسِ دَلالَةٍ، وَقِيَاسِ شَبَهٍ.
فَقِيَاسُ الْعِلَّةِ: مَا كانَتْ الْعِلّةُ فِيهِ مُوجِبَةً لِلْحُكْمِ.
وَقِيَاسُ الدَّلالَةِ: هُوَ الاسْتِدْلالُ بِأَحَدِ النَّظِيرَيْنِ عَلَى الآخَرِ، وَهُوَ: أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ دَالَّةً عَلَى الْحُكْمِ، وَلا تَكُونَ مُوجِبَةَ لِلْحُكمِ.
وَقِيَاسُ الشَبَهِ: هُوَ الْفَرْعُ الْمُرَدَّدُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ فَيُلْحَقُ بِأَكْثَرِهِمَا شَبَهاً.
وِمِنْ شَرْطِ الْفَرْعِ أَنْ يَكُونَ مُنَاسباً للأصْلِ فِيمَا يُجْمَعُ بِهِ بَيْنَهُمَا لِلْحُكْمِ، وَمِنْ شَرْطِ الأصلِ أَنْ يَكُونَ ثابِتاً بِدَلِيلٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، وَمِنْ شَرْطِ العِلَّةِ أَنْ تطَّرِدَ فِي مَعْلُولاتِهَا فَلا تَنْتَقِضُ لَفْظاً وَلا مَعْنَى، وَمِنْ شَرْطِ الْحُكْمِ، أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الْعِلَّةِ فِي النَّفْي، وَالإِثْبَاتِ.
وِالْعِلّةُ: هِيَ الْجَالِبَةُ للحُكْمِ، وَالحُكْمُ هُوَ الْمَجْلُوبُ لِلْعِلَّةِ.
الحظر والإباحة واستصحاب الحال
وَأَمَّا الْحَظْرُ وَالإِبَاحَةُ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الأَشْيَاءَ عَلَى الحَظَرِ إلا مَا أَبَاحَتْهُ الشَّرِيعَةُ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الإبَاحَةِ فَيُسْتَمْسَكُ بِالأَصْلِ وَهُوَ الحَظْرُ، ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ بِضدِّهِ، وَهُوَ أَنَّ الأَصْلَ فِي الأَشْيَاءِ الإبَاحَةُ إِلا مَا حَظَرَهُ الشَّرْعُ.
وَمَعْنَى اسْتِصحَابِ الْحَالِ: أَنْ يَسْتَصْحِبَ الأَصْلَ عِنْدَ عَدَمِ الدَلِيلِ الشَّرْعِي.
تعارض الأدلة
وأَمَّا الأَدِلَّةُ فَيُقَدَّمُ الْجَلِيُّ مِنْهَا عَلَى الْخَفِيِّ، وَالْمُوجِبُ لِلْعِلْمِ عَلَى الْمُوجِبِ لِلْظَنِّ، وَالنُّطْقُ عَلَى الْقِياسِ، وَالْقِيَاسُ الْجَلِيُّ عَلَى الْخَفِيِّ، فَإِنْ وُجِدَ فِي النُّطْقِ مَا يُغَيِّرُ الأصلَ، وَإِلا فَيُسْتَصْحَبُ الْحَالُ.
المفتي والمستفتي
وَمِنْ شَرْطِ الْمُفْتِي: أَنْ يَكُونَ عَالِماً بِالْفِقْهِ أَصْلاَ وَفَرعاً، خِلافاً وَمَذْهباً وَأنْ يَكُونَ كَاملَ الآلَةِ في الاجْتِهَادِ، عَارِفاً بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيهِ فِي استِنْبَاطِ الأحكَامِ مِنَ النحْوِ وَاللُّغَةِ، وَمَعْرِفَةِ الرّجَالِ الرَّاوينَ، وَتَفْسِيرِ الآيَاتِ الْوَارِدَة فِي الأحكَامِ وَالأَخْبَارِ الْوَارِدِةِ فِيهَا.
وَمِنْ شَرْطِ الْمُسْتَفْتِي أَنْ يَكُون أَهلاً للتقليد فيقلّدُ المفتِي فِي الْفتْيَا.
الاجتهاد والتقليد
وَلَيْسَ لِلْعَالِمِ أَنْ يُقَلِّدَ، والتَّقْلِيدُ: قَبُولَ قَوْلِ القَائِلِ بِلا حُجَّةٍ، فَعَلَى هَذَا قَبُولُ قَوْلِ النَّبِيِّ لاَ يُسَمَّى تَقْلِيداً، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: التَقْلِيدُ قَبُولُ قَوْلِ الْقَائِلِ وَأَنْتَ لا تَدْرِي مِنْ أَيْنَ قَالَهُ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وَسلَّم كَانَ يَقُولُ بِالْقَياسِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى قَبُولُ قَوْلِهِ تَقْلِيداً.
وَأَمَّا الاجْتِهَادُ فَهُوَ: بَذْلُ الْوُسْعِ فِي بُلُوغِ الْغَرَضِ، فَالْمُجْتَهِدُ إنْ كَانَ كَامِلَ الآلَةِ فِي الاجْتِهَادِ فَإنْ اجْتَهَدَ فِي الْفُرُوعِ فأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِن اجتَهَدَ فِيهَا وأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ، وَمِنهُم مَنْ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْفُرُوعِ مُصِيبٌ، وَلا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: كُل مُجْتَهِدٍ فِي الأُصُولِ الْكَلامِيَّةِ مُصِيباً، لأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى تَصْوِيبِ أَهْلِ الضَّلالَةِ مِنَ النَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَالْكُفارِ، وَالْمُلْحِدِينَ، وَدَلِيلُ مَنْ قَالَ: «لَيْسَ كُل مُجْتَهِدٍ فِي الفُرُوعِ مُصِيباً»، قَوْلُهَُ صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وَسلَّم: «مَنِ اجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَمَنِ اجتَهَدَ وَأَخْطَأَ فَلَهُ أجْرٌ وَاحِدٌ»، وَجْهُ الدَّلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وَسلَّم خَطَّأَ الْمُجْتَهِدَ تَارَةً وَصَوَّبَهُ أُخْرَى.
واللَّه سُبْحَانَه وتَعَالى أعْلَى وَأَعْلَم.