الإعراب عن قواعد الإعراب
ابن هشام الأنصاري (ت ٧٦١ هـ)
(نسخ: عبد الله)

قال الشيخ الإمام العالم العامل جمال الدين بن هشام - نفع الله المسلمين ببركته -: أما بعد حمد الله حق حمده، والصلاة والسلام على سيدنا وعبده، محمد وآله من بعده، فهذه فوائد جليلة في قواعد الإعراب، تقتفي، بمتأملها جادة الصواب، وتطلعه في الأمد القصير على نكت كثير من الأبواب، عملتها عمل من طب لمن حب، وسميتها بـ: (الإعراب عن قواعد الإعراب)
ومن الله أستمد التوفيق والهداية إلى أقوم طريق بمنه وكرمه. وتنحصر في أربعة أبواب.
الباب الأول في الجملة وأحكامها
وفيه أربع مسائل
المسألة الأولى في شرحها
اعلم أن اللفظ المفيد يسمى: كلاما وجملة. ونعني بالمفيد ما يحسن السكوت عليه. وأن الجملة أعم من الكلام، فكل كلام جملة، ولا ينعكس. ألا ترى أن نحو: (قام زيد) من قولك: (إن قام زيد قام عمرو) يسمى جملة، ولا يسمى كلاما ؟ لأنه لا يحسن السكوت عليه.
وكذا القول في جملة الجواب.
ثم الجملة تسمى اسمية إن بدئت باسم كزيد قائم، وإن زيدا قائم، وهل زيدا قائم، وما زيد قائما. وفعلية إن بدئت بفعل كقام زيد، وهل قام زيد، وزيدا ضربته، ويا عبد الله. لأن التقدير: ضربت زيدا ضربته، وأدعو عبد الله.
وإذا قيل: (زيد أبوه غلامه منطلق) فزيد: مبتدأ أول، وأبوه: مبتدأ ثان، وغلامه: مبتدأ ثالث، ومنطلق: خبر الثالث، والثالث وخبره خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأول.
ويسمى المجموع جملة كبرى، و(غلامه منطلق) جملة صغرى و(أبوه غلامه منطلق)، جملة كبرى بالنسبة إلى (غلامه منطلق)، وصغرى بالنسبة إلى (زيد).
ومثله ﴿لكنا هو الله ربي﴾ إذ أصله: لكن أنا هو الله ربي، وإلا لقيل: لكنه.
المسألة الثانية
في الجمل التي لها محل من الإعراب
وهي سبع:
إحداها: الواقعة خبرًا، وموضعها رفع في بابي: المبتدأ و(إن)، نحو: زيد قام أبوه، وإن زيدا أبوه قائم. ونصب في بابي كان وكاد. نحو: ﴿كانوا يظلمون﴾، ﴿وما كادوا يفعلون﴾.
الثانية، والثالثة: الواقعة حالا، والواقعة مفعولا، ومحلها النصب.
فالحالية، نحو: ﴿وجاؤوا أباهم عشاء يبكون﴾. والمفعولية تقع في أربعة مواضع: محكية بالقول، نحو: ﴿قال إني عبد الله﴾ وتالية للمفعول الأول في باب (ظن) نحو: ظننت زيدا يقرأ. وتالية للمفعول الثاني في باب (أعلم) نحو: أعلمت زيدا عمرا أبوه قائم، ومعلقا عنها العامل نحو: ﴿لنعلم أي الحزبين أحصى﴾، ﴿فلينظر أيها أزكى﴾.
والرابعة: المضاف إليها، ومحلها الجر، نحو: ﴿هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم﴾، ﴿يوم هم بارزون﴾.
وكل جملة وقعت بعد (إذ) أو (إذا) أو (حيث) أو (لما) الوجودية - عند من قال باسميتها - أو (بينما) أو (بينا) فهي في موضع خفض بإضفتهن إليها.
والخامسة: الواقعة جوابا لشرط جازم، ومحلها الجزم إذا كانت مقرونة بالفاء، أو بـ(إذا) الفجائية.
فالأولى، نحو: ﴿من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم﴾ ولهذا قرئ بجزم ﴿ويذرهم﴾ عطفا على محل الجملة.
والثانية، نحو: ﴿وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون﴾.
فأما نحو: إن قام أخوك قام عمرو، فمحل الجزم محكوم به للفعل وحده، لا للجملة بأسرها، وكذلك القول في فعل الشرط، ولهذا تقول - إذا عطفت عليه مضارعا، وأعلمت الأول - نحو: إن قام ويقعدا أخواك قام عمرو، فتجزم المعطوف قبل أن تكمل الجملة.
تنبيه: إذا قلت: إن قام زيد أقوم، ما محل أقوم ؟
فالجواب: قيل: هو دليل الجواب، وقيل: هو إضمار الفاء. فعلى الأول لا محل له، لأنه مستأنف. وعلى الثاني محله الجزم. ويظهر أثر ذلك في التابع.
والسادسة: التابعة لمفرد، كالجملة المنعوت بها، ومحلها بحسب منعوتها، فهي في موضع رفع في نحو: ﴿من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه﴾.
ونصب في نحو: ﴿واتقوا يوما ترجعون فيه﴾، وجر في نحو: ﴿ليوم لا ريب فيه﴾.
والسابعة: التابعة لجملة لها محل، نحو: (زيد قام أبوه، وقعد أخوه)، فجملة (قام أبوه) في موضع رفع لأنها خبر المبتدأ، وكذلك جملة: (قعد أخوه)، لأنها معطوفة عليها. ولو قدرت العطف على الجملة الاسمية لم يكن للمعطوفة محل، ولو قدرت الواو واو الحال كانت الجملة في موضع نصب، وكانت (قد) فيها مضمرة.
وإذا قلت: (قال زيد: عبد الله منطلق، وعمرو مقيم) فليس من هذا القبيل، بل الذي محله النصب مجموع الجملتين، لأن المجموع هو المقول فكل منهما جزء المقول، لا المقول.
المسألة الثالثة
في بيان الحمل التي لا محل لها من الإعراب
وهي أيضا سبع:
إحداها: المبتدأ، وتسمى المستأنَفة أيضًا نحو: ﴿إنا أعطيناك الكوثر﴾، ونحو: ﴿إن العزة لله جميعا﴾ بعدَ ﴿ولا يحزنك قولهم﴾ وليستْ مَحْكيةً بالقول، لفساد المعنى، ونحو: ﴿لا يسمعون﴾ بعدَ ﴿وحفظا من كل شيطان مارد﴾، وليستْ صفة للنكرة ولا حالًا منها مقدَّرة لوصفها، لفساد المعنى.
وتقول: (ما لَقِيتُه مُذْ يومان) فهذا كلامٌ تَضَمَّنَ جملتين مستأنفتين: فعلية مقدمة، واسمية مؤخرة، وهي في التقدير جوابُ سؤالٍٍ مقدرٍ، وكأنّك لمّا قلتَ: (ما لقيته)، قيل لك: (ما أمَدَ ذلك؟) فقلتَ: (أمده يومان).
ومثلُهما: (قام القوم خلا زيدًا)، و(حاشا عمرًا)، و(عدا بكرًا)، إلا أنهما فعليّتان.
ومن مثلهما قوله:
فما زالت القتلى تمج دماؤها
بدجلة، حتى ماء دجلة أشكل
وعن الزجاج، وابن دُرُسْتَوَيه: أن الجملة بعد (حتى)، الابتدائية في موضع جر بـ(حتى). وخالفهما الجمهور، لأن حروف الجر لا تعلق عن العمل، ولوجوب كسر إن في نحو: (مَرِضَ زيدٌ حتّى إنّهم لا يَرْجُونه)، وإذا دخل الجار على (إنّ) فُتِحَتْ همزتُها، نحو: ﴿ذلك بأن الله هو الحق﴾.
الثانية: الواقعة صلة لاسم، نحو: جاء الذي قام أبوه. أو لحرف نحو: عجبت مما قمت، أي: من قيامك. فـ(ما) وما (قمت) في موضع جر بـ(من)، وأما (قمت) وحدها فلا محل لها.
الثالثة: المعترضة بين شيئين للتسديد، أو للتبيين، نحو: ﴿فلا أقسم بمواقع النجوم﴾ الآية، وذلك لأن قوله تعالى: ﴿إنه لقرآن كريم﴾ جواب ﴿لا أقسم بمواقع النجوم﴾، وما بينهما اعتراض لا محل له، وفي أثناء هذا الاعتراض اعتراض آخر وهو ﴿لو تعلمون﴾ فإنه معترض بين الموصوف والصفة، وهما: ﴿لقسم﴾ و ﴿وعظيم﴾ ويجوز الاعتراض بأكثر من جملة واحدة، خلافا لأبي علي، وليس منه هذه الآية، خلافا للزمخشري. ذكره في سورة آل عمران.
الرابعة: التفسيرية، وهي الكاشفة لحقيقة ما تليه، وليست عمدة، نحو: ﴿وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم﴾ فجملة الاستفهام مفسرة لـ ﴿النجوى﴾، وقيل: بدل منها.
ونحو: ﴿مستهم البأساء والضراء﴾، فإنه تفسير لـ ﴿مثل الذين خلوا﴾، وقيل: حال من ﴿الذين﴾. انتهى.
ونحو: ﴿كمثل آدم خلقة الله من تراب..... الآية﴾، فجملة خلقه تفسير للمثل.
ونحو: ﴿تؤمنون بالله ورسوله﴾ بعد: ﴿هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم﴾ وقيل: مستأنفة بمعنى: آمنوا، بدليل ﴿يغفر لكم﴾ بالجزم. وعلى الأول هو جواب لاستفهام، وصح ذلك تنزيلا لسبب السبب وهو الدلالة، منزلة السبب وهو الامتثال، إذ الدلالة سبب الامتثال وخرج بقولي: وليست عمدة، الجملة المخبر بها عن ضمير الشأن فإنها مفسرة له، ولها محل بالاتفاق، لأنها عمدة، لا يصح الاستغناء عنها، وهي حالة محل المفرد.
وكون الجملة المفسرة لا محل لها هو المشهور وقال الشلوبين:
التحقيق أن الجملة المفسرة بحسب ما تفسره. فإن كان له محل فهي كذلك، وإلا فلا.
فالثاني: نحو ضربته من نحو: زيدا ضربته التقدير: ضربت زيدا ضربته فلا محل للجملة المقدرة، لأنها مستأنفة، فكذلك تفسيرها
والأول: نحو: ﴿إنا كل شيء خلقناه بقدر﴾، والتقدير: إنا خلقنا كل شيء خلقناه، فــ ﴿خلقناه﴾ المذكورة مفسرة لخلقنا المقدرة، وتلك في موضع رفع، لأنها خبر لإن، فكذلك المذكورة.
ومن ذلك: زيد الخبر يأكله، فيأكله في موضع رفع لأنها مفسرة للجملة المحذوفة، وهي في محل رفع على الخبرية. واستدل على ذلك بعضهم بقول الشاعر:
فمن نحن نؤمنه يبت وهو آمن
ومن لا نجزه يمس منا مروعا
فظهر الجزم في الفعل المفسر للفعل المحذوف.
والخامسة: الواقعة جوابا لقسم، نحو: ﴿إنك لمن المرسلين﴾ بعد قوله تعالى: ﴿يس والقرآن الحكيم﴾، ونحو: ﴿إن لكم لما تحكمون﴾ بعد ﴿أم لكم أيمان علينا بالغة﴾ قيل: ومن هنا قال ثعلب: لا يجوز: زيد ليقومن، لأن الجملة المخبر بها لها محل، وجواب القسم لا محل له.
ورد بقوله تعالى: ﴿والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم﴾ والجواب عما قاله: أن التقدير: والذين آمنوا وعملوا الصالحات أقسم بالله لنبوئنهم، وكذا التقدير فيما أشبه ذلك، فالخبر مجموع جملة القسم المقدرة، وجملة الجواب المذكورة، لا مجرد الجواب.
تنبيه: يحتمل قول الفرزدق:
تعش فإن عاهدتني لا تخونني
نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
كون (لا تخونني) جوابا كقوله:
أرى محرزا عاهدته ليوافقن
فكان كمــن أغريته بـخلاف
فلا محل له. وكونه حالا من الفاعل، أو من المفعول، أو منهما، فيكون في محل نصب.
السادسة: الواقعة جوابا لشرط غير جازم، كجواب (إذا) و(لو) و(لولا). أو جازم ولم يقترن بالفاء، ولا بـ(إذا) نحو: إن جاءني زيدا أكرمته.
السابعة: التابعة لما لا موضع له نحو: قام زيد وقعد عمرو، إذا لم تقدر الواو للحال.
المسألة الرابعة
(الجمل) الخبرية التي لم يسبقها ما يطلبها لزوما، إن وقعت بعد النكرات المحضة فصفات، أو بعد المعارف المحضة فأحوال. أو بعد غير المحضة منهما فمحتملة لهما.
مثال الواقعة صفة: ﴿حتى تنزل علينا كتاب نقرؤه﴾ فجملة: ﴿نقرؤه﴾ صفة لـ ﴿كتابا﴾، لأنه نكرة محضة. وقد مضت أمثلة من ذلك في المسألة الثانية.
ومثال الواقعة حالا: ﴿ولا تمنن تستكثر﴾.
فجملة ﴿تستكثر﴾ حال من الضمير المستتر في ﴿تمنن﴾ المقدر بأنت، لأن الضمائر كلها معارف، بل هي أعرف المعارف.
ومثال المحتملة للوجهين بعد النكرة نحو: مررت برجل صالح يصلي، فإن شئت قدرت (يصلي) صفة ثانية لـ(رجل)، لأنه نكرة. وإن شئت قدرته حالاً منه، لأنه قد قرب من المعرفة باختصاصه بالصفة.
ومثال المحتملة (لهما) بعد المعرفة قوله تعالى: ﴿كمثل الحمار يحمل أسفار﴾ فإن المراد بالحمار الجنس وذو التعريف الجنسي يقرب من النكرة فتحتمل الجملة من قوله تعالى: ﴿يحمل أسفارا﴾ وجهين: أحدهما: الحالية لأن (الحمار) بلفظ المعرفة، والثاني: الصفة، لأنه كالنكرة في المعنى.
الباب الثاني في الجار والمجرور
وفيه أيضا أربع مسائل
المسألة الأولى
إحداها: أنه لابد من تعلق الجار بفعل، أو ما في معناه. وقد اجتمعا في قوله تعالى: ﴿أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم﴾ وقول ابن دريد:
واشتعل المبيض في مسوده
مثل اشتعال النار في جزل الغضا
وإن علقت الأول بـ(المبيض)، أو جعلته حالا متعلقا بـ(كائنا) فلا دليل فيه.
ويستثنى من حروف الجر أربعة فلا تتعلق بشيء:
أحدها: الجار الزائد كالباء في ﴿كفى بالله شهيدا﴾، و﴿أحسن بزيد﴾ عند الجمهور، و﴿ما ربك بغافل﴾. وكـ ﴿من﴾ في ﴿ما لكم من إله غيره﴾ و﴿هل من خالق غير الله﴾.
والثاني: (لعل) في لغة من يجر بها وهم عقيل، ولهم في لامها الأولى الإثبات والحذف، وفي الأخيرة الفتح والكسر.
قال شاعرهم:
لعل أبي المغوار منك قريب
والثالث: (لولا) في قول بعضهم: لولاي، ولولاك، ولولاه. فذهب سيبويه إلى أن (لولا) في ذلك جارة، ولا تتعلق بشيء. والأكثر أن يقال: لولا أنا، ولولا أنت، ولولا هو، كما قال الله تعالى: ﴿لولا أنتم لكنا مؤمنين﴾.
والرابع: كاف التشبيه، نحو: زيد كعمرو. فزعم الأخفش وابن عصفور أنها لا تتعلق بشيء، وفي ذلك بحث.
المسألة الثانية
حكم الجار والمجرور إذا وقع بعد المعرفة، والنكرة كحكم الجملة. فهو صفة، في نحو: رأيت طائرا على غصن، لأنه بعد نكرة محضة، وهو (طائرا).
وحال، في نحو: قوله تعالى: ﴿فخرج على قومه في زينته﴾ أي: متزينا، لأنه بعد معرفة محضة وهي الضمير المستتر في خرج.
ومحتمل لهما في نحو: يعجبني الزهر في أكمامه، وهذا ثمر يانع على أغصانه، لأن (الزهر) معرف بأل الجنسية فهو قريب من النكرة، وقولك: (ثمر) موصوف فهو قريب من المعرفة.
المسألة الثالثة
متى وقع الجار والمجرور صفة، أو صلة، أو خبرًا، أو حالا تعلق بمحذوف تقديره: كائن أو استقر، إلا أن الواقع صلة يتعين فيه استقر، لأن الصلة لا تكون إلا جملة.
وقد تقدم مثال الصفة، والحال. ومثال الخبر: (الحمد لله) ومثال الصلة: ﴿وله من في السماوات والأرض﴾.
المسألة الرابعة
يجوز في الجار والمجرور في هذه المواضع الأربعة، وحيث وقع بعد نفي، أو استفهام، أن يرفع الفاعل، تقول: مررت برجل في الدار أبوه، فلك في (أبوه) وجهان:
أحدهما: أن تقدره فاعلا بالجار والمجرور، لنيابته عن استقر محذوفا، وهذا هو الراجح عند الحذاق.
والثاني: أن تقدره مبتدأ مؤخراً، والجار والمجرور خبرًا مقدما. والجملة صفة. وتقول: ما في الدار أحد، وقال الله: ﴿أفي الله شك﴾.
وأجاز الكوفيون والأخفش رفعهما الفاعل في غير هذه المواضع أيضا نحو: في الدار زيد.
تنبيه: جميع ما ذكرناه في الجار والمجرور ثابت للظرف، فلا بد من تعلقه بفعل نحو: ﴿وجاؤوا أباهم عشاء يبكون﴾، ﴿أو اطرحوه أرضا﴾. أو بمعنى فعل، نحو: زيد مبكر يوم الجمعة وجالس أمام الخطيب.
ومثال وقوعه صفة، نحو: مررت بطائر فوق غصن، وحالا نحو: رأيت الهلال بين السحاب.
ومحتملا لهما: يعجبني الثمر فوق الأغصان، ورأيت ثمرة يانعة فوق غصن.
ومثال وقوعه خبرًا: ﴿والركب أسفل منكم﴾، في قراءة السبعة بنصب ﴿أسفل﴾.
وصلة: ﴿ومن عنده لا يستكبرون﴾.
ومثال رفعه الفاعل، نحو: زيد عنده مال، ويجوز تقديرهما مبتدأ وخبرًا، ويأتي في نحو: عندك زيد (المذهبان).
الباب الثالث
في تفسير كلمات يحتاج إليها المعرب
وهي عشرون كلمة، وهي ثمانية أنواع
النوع الأول
ما جاء على وجه واحد
أحدها: ما جاء على وجه واحد وهو: أربعة.
أحدها: (قط)، بفتح القاف، وتشديد الطاء وضمها في اللغة الفصحى فيهن، وهو ظرف لاستغراق ما مضى من الزمان نحو: ما فعلته قط. وقول العامة: لا أفعله قط لحن.
والثاني: (عوض)، بفتح أوله، وتثليث آخره، وهو ظرف لاستغراق ما يستقبل من الزمان ـ ويسمى الزمان عوضا، لأنه كلما ذهبت منه مدة عوضتها مدة أخرى، أو لأنه يعوض ما سلف في زعمهم ـ تقول: لا أفعله عوض. فإن أضفته نصبته فقلت: عوض العائضين، كمل تقول: دهر الدهراين. وكذلك (أبدا)، تقول فيها: ظرف لاستغراق ما يستقبل من الزمان.
والثالث: (أجل) بسكون اللام، وهو حرف لتصديق الخبر، يقال: جاءني زيد، أو ما جاءني زيد، فتقول: أجل، أي: صدقت.
والرابع: (بلى) وهو حرف لإيجاب المنفي، مجردا كان النفي نحو: ﴿زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن﴾، أو مقرونا بالاستفهام نحو: ﴿ألست بربكم قالوا بلى﴾ أي: بلى أنت ربنا.
النوع الثاني
ما جاء على وجهين
وهو: (إذا)، فتارة يقال فيها: ظرف مستقبل، خافض لشرطه، منصوب بجوابه. وهذا أنفع، وأرشق، وأوجز من قول المعربين: ظرف لما يستقبل من الزمان، فيه معنى الشرط غالبا.
وتختص (إذا) هذه بالجملة الفعلية، نحو: ﴿فإذا انشقت السماء﴾ وأما نحو: ﴿إذا السماء انشقت﴾ فمحمول على إضمار الفعل، مثل: ﴿وإن امرأة خافت﴾. وقد تستعمل للماضي، نحو: ﴿وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها﴾.
وتارة يقال فيها: حرف مفاجأة، وتختص بالجملة الاسمية، نحو: ﴿ونزع يده فإذا هي بيضاء﴾. وهل هي حرف، أو ظرف مكان، أو زمان؟ أقوال.
وقد اجتمعا في قوله تعالى: ﴿ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون﴾.
النوع الثالث
ما جاء على ثلاثة أوجه
وهي سبع:
إحداها: (إذ)، فيقال فيها تارة: ظرف لما مضى من الزمان، ويدخل على الجملتين، نحو: ﴿واذكروا إذ أنتم قليل﴾ ﴿واذكروا إذ كنتم قليلا﴾.
وقد تستعمل للمستقبل، نحو قوله تعالى: ﴿فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم﴾.
ويقال فيها تارة: حرف مفاجأة، كقوله:
فاستقدر الله خيرا وارضين به
فبينما العسر إذ دارت مياسير
وتارة حرف تعليل، كقوله تعالى: ﴿ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم﴾ أي: لأجل ظلمكم.
الثانية: (لما)، يقال فيها في نحو: لما جاء زيد جاء عمرو: حرف وجود لوجود، وتختص بالماضي. وزعم الفارسي ومتابعوه أنها ظرف بمعنى حين.
ويقال فيها في نحو: ﴿لما يذوقوا عذاب﴾: حرف جزم لنفي المضارع، وقلبه ماضيا متصلا نفيه (بالحال)، متوقعا ثبوته. ألا يرى أن المعنى أنهم لم يذقوه إلى الآن، وأن ذوقهم له متوقع؟ ويقال فيها: حرف استثناء، في نحو: أنشدك الله لما فعلت. أي: ما أسألك إلا فعلك. ومنه: ﴿إن كل نفس لما عليها حافظ﴾ في قراءة التشديد. ألا يرى أن المعنى: ما كل نفس إلى عليها حافظ؟ ولا التفات إلى إنكار الجوهري ذلك.
الثالثة: (نعم)، فيقال فيها: حرف تصديق، إذا وقعت بعد الخبر، نحو: قام زيد، أو ما قام زيد.
وحرف إعلام، إذا وقعت بعد الاستفهام، نحو: أقام زيد؟ وحرف وعد، إذا وقعت بعد الطلب، نحو: أحسن إلى فلان.
ومن مجيئها للإعلام: ﴿فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم﴾.
وهذا المعنى لم ينبه عليه سيبوبه، فإنه قال: عدة وتصديق. ولم يزد على ذلك.
الرابعة: (إي) بكسر الهمزة، وسكون الياء. وهي بمنزلة (نعم) إلا أنها تختص بالقسم، نحو: ﴿قل إي وربي إنه لحق﴾.
الخامسة: (حتى)، فأحد أوجهها أن تكون جارة، فتدخل على الاسم الصريح بمعنى (إلى) نحو: ﴿حتى مطلع الفجر﴾، ﴿حتى حين﴾ وعلى الاسم المؤول من أن مضمرة ومن الفعل المضارع فتكون تارة بمعنى إلى، نحو: ﴿حتى يرجع إلينا موسى﴾. الأصل حتى أن يرجع، أي إلى رجوعه، أي: إلى زمن رجوعه.
وتارة بمعنى (كي)، نحو: أسلم حتى تدخل الجنة. وقد تحتملهما كقوله تعالى: ﴿فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء﴾ أي: إلى أن تفيء.
وزعم ابن هشام الخضراوي: وابن مالك: أنها قد تكون بمعنى (إلا) كقوله:
ليس العطاء من الفضول سماحة
حتى تجود وما لديك قليل
أي: إلا أن تجود. وهو استثناء منقطع.
والثاني: أن تكون حرف عطف تفيد الجمع المطلق كالواو، إلا أن المعطوف بها، مشروط بأمرين: أحدهما: أن يكون بعضا من المعطوف عليه، والثاني: أن يكون غاية له في شيء، نحو: مات الناس حتى الأنبياء. فإن الأنبياء عليهم السلام غاية للناس في شرف المقدار. وعكسه: زارني الناس حتى الحجامون.
وقال الشاعر:
قهرناكم حتى الكماة فأنتم
تهابوننا حتى بنينا الأصاغرا
فالكماة غاية في القوة، والبنون الأصاغر غاية في الضعف.
وتقول: أعجبتني الجارية حتى كلامها، لأن الكلام كجزئيها.
ويمتنع حتى ولدها. والضابط: ما صح استثناؤه صح دخول (حتى) عليه، وما لا، فلا.
والثالث: أن تكون حرف ابتداء، فتدخل على ثلاثة أشياء: الفعل الماضي. نحو: ﴿حتى عفوا وقالوا﴾، والمضارع المرفوع: (حتى يقول الرسول) في قراءة من رفع. والجملة الاسمية كقوله:
حتى ماء دجلة أشكل
وقيل هي مع الماضي جارة، و(أن) بعدها مضمرة وقد مضى خلاف الزجاج، وابن درستويه فيهن.
السادسة: (كلا)، فيقال فيها: حرف ردع، وزجر، في نحو: ﴿فيقول ربي أهانن كلا﴾ أي: انته عن هذه المقالة.
وحرف جواب وتصديق في نحو: ﴿كلا والقمر﴾، والمعنى: إي والقمر.
وبمعنى: حقا، أو (ألا) الاستفتاحية على خلاف في ذلك نحو: ﴿كلا لا تطعه﴾.
والصواب الثاني، لكسر الهمزة في نحو ﴿كلا إن الإنسان ليطغى﴾
السابعة: (لا) فتكون نافية، وناهية، وزائدة. فالنافية تعمل في النكرات عمل (إن) كثيرا. نحو: لا إله إلا الله، وعمل (ليس) قليلا، كقوله:
تعز فلا شيء على الأرض باقيا
ولا وزر مما قضى الله واقيا
والناهية تجزم المضارع، نحو: ﴿ولا تمنن تستكثر﴾، ﴿فلا يسرف في القتل﴾. والزائدة دخولها كخروجها، نحو: ﴿ما منعك ألا تسجد﴾، أي (أن) تسجد كما جاء في موضع آخر.
النوع الرابع
ما يأتي على أربعة أوجه
وهو أربعة:
أحدها: (لولا)، فيقال فيها تارة: حرف يقتضي امتناع جوابه لوجود شرطه، وتختص بالجملة الاسمية المحذوفة الخبر غالبا، نحو: لولا زيد لأكرمتك، ومنه: لولاي لكان كذا، أي لولا أنا موجود.
وتارة: حرف تحضيض وعرض، أي طلب بإزعاج، أو برفق. فتختص بالمضارع، أو بما هو في تأويله، نحو: ﴿لولا تستغفرون الله﴾، ونحو: ﴿لولا أخرتنا إلى أجل قريب﴾.
وتارة: حرف توبيخ، فتختص بالماضي، نحو: ﴿فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة﴾.
قيل: وتكون حرف استفهام، نحو: ﴿لولا أخرتني إلى أجل قريب﴾ ﴿ولولا أنزل إليه ملك﴾، قاله الهروي. والظاهر أنها في الأولى للعرض، وفي الثانية للتحضيض.
وزاد معنى آخر، وهو أن تكون نافية بمنزلة (لم) وجعل منه: ﴿فلولا كانت قرية آمنت﴾ أي: لم تكن قرية آمنت. والظاهر أن المراد: فهلا. وهو قول الأخفش، والكسائي، والفراء. ويؤيده أن في حرف أبي، وعبد الله بن مسعود: (فهلا) ويلزم من ذلك معنى النفي الذي ذكره الهروي، لأن اقتران التوبيخ بالفعل الماضي يشعر بانتقاء وقوعه.
الثانية: (إن) المكسورة الخفيفة، فيقال فيها: شرطية، نحو:: ﴿إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله﴾. وحكمها أن تجزم فعلين.
ونافية، في نحو: ﴿إن عندكم من سلطان بهذا﴾. وأهل العالية يعملونها عمل ليس، نحو قول بعضهم: إن أحد خيرا من أحد إلا بالعافية. وقد اجتمعا في قوله تعالى: ﴿ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده﴾.
ومخففة من الثقيلة، في نحو: ﴿وإن كلا لما ليوفينهم﴾. في قراءة من خفف النون. ويقل إعمالها عمل المشددة كهذه القراءة. ومن إهمالها: (إن كل نفس لما عليها حافظ) في قراءة من خفف (لما).
وزائدة، في نحو: ما إن زيد قائم. وحيث اجتمعت (ما) و(إن) فإن تقدمت (ما) فهي نافية، وإن (زائدة)، وإن تقدمت (إن) فهي شرطية، و(ما) زائدة، نحو: ﴿وإما تخافن من قوم خيانة﴾.
والثالثة: (أن) المفتوحة الخفيفة فيقال فيها: حرف مصدري ينصب المضارع، نحو: ﴿يريد الله أن يخفف عنكم﴾. وهي الداخلة على الماضي في نحو: أعجبني أن صمت، لا غيرها، خلافا لابن طاهر.
وزائدة، في نحو: ﴿فلما أن جاء البشير﴾، وكذا حيث جاءت بعد (لما).
ومفسرة في نحو: ﴿فأوحينا إليه أن اصنع الفلك﴾، وكذلك حيث وقعت بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه، ولم تقترن بخافض.
فليس منها: ﴿وآخر دعواهم أن الحمد لله﴾ لأن المقدم عليها غير جملة. ولا نحو: كتبت إليه بأن أفعل، لدخول الخافض.
وقول بعض العلماء في قوله تعالى: ﴿ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم﴾: إنها مفسرة، إن حمل على أنها مفسرة لـ ﴿أمرتني﴾ دون (قلت) منع منه أنه لا يصح أن يكون ﴿اعبدوا الله ربي وربكم﴾ مقولا لله تعالى. أو على أنها مفسرة لـ(قلت)، فحروف القول تأباه. وجوزه الزمخشري إن أول (قلت) بأمرت. وجوز مصدريتها، على أن المصدر بيان للهاء، لا بدل، لأن تقدير إسقاط الضمير يخلي الصلة من عائد.
والصواب العكس، لأن البيان كالصفة، فلا يتبع الضمير، والعائد المقدر الحذف موجود لا معدوم، ولا يصح أن يبدل من (ما) لأن العبادة لا يعمل فيها القول. نعم يجوز إن أول بأمرت.
ولا يمتنع في ﴿وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي﴾، أن تكون مفسرة، مثلها في ﴿فأوحينا إليه أن اصنع الفلك﴾، خلافا لمن منع ذلك لأن الإلهام في معنى القول.
ومخففة من الثقيلة في: ﴿علم أن سيكون منكم﴾، ﴿وحسبوا أن لا تكون﴾ في قراءة الرفع. وكذا حيث وقعت بعد علم، أو ظن نزل منزلة العلم.
الرابعة: (من) فتكون: شرطية، في نحو: ﴿من يعمل سوء يجز به﴾.
وموصولة، في نحو: ﴿ومن الناس من يقول﴾.
واستفهامية، في نحو: ﴿من بعثنا من مرقدنا﴾.
ونكرة موصوفة، في: مررت بمن معجب لك، أي: بإنسان معجب لك. وأجاز الفارسي أن تقع نكرة تامة، وحمل عليه قوله:
ونعم من هو في سر وإعلان
أي: ونعم شخصا.
النوع الخامس
ما يأتي على خمسة أوجه
وهو شيئان: أحدهما: (أي)، فتقع شرطية، نحو: ﴿أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي﴾.
واستفهامية، نحو: ﴿أيكم زادته هذه إيمانا﴾.
وموصلة،ـ خلافا لثعلب ـ نحو: ﴿لننزعن من كل شيعة أيهم أشد﴾ أي: الذي هو أشد، قاله سيبويه ومن تابعه. وقال من رأى أن الموصولة لا تبنى: هي هنا استفهامية مبتدأ، (وأشد) خبره.
ودالة على معنى الكمال، فتقع صفة لنكرة، نحو: هذا رجل أي (رجل)، أي هذا رجل كامل في صفات الرجال. وحالاً للمعرفة، نحو: مررت بعبد الله أي رجل.
ووصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام، نحو: ﴿يا أيها الإنسان﴾.
الثانية: (لو)، فأحد أوجهها أن تكون حرف شرط في الماضي ـ وهذا هو أغلب أقسامها - فيقال فيها: حرف يقتضي امتناع ما يليه، - واستلزامه لتاليه، نحو: ﴿ولو شئنا لرفعناه بها﴾ فلو ههنا دالة على أمرين: أحدهما: أن مشيئة الله تعالى لرفع هذا المنسلخ منتفية، ويلزم من هذا أن يكون رفعه منتفيا، إذ لا سبب لرفعه إلا المشيئة، وقد انتفت.
وهذا بخلاف: (لو لم يخف الله لم يعصه)، لأنه لا يلزم من انتقاء (لم يخف) انتقاء (لم يعص) حتى يكون قد خاف وعصى، وذلك لأن انتفاء العصيان له سببان: خوف العقاب، وهي طريق العوام، والإجلال والإعظام، وهي طريق الخواص. والمراد أن صهيبا رضي الله عنه من هذا القسم، وأنه لو قدر خلوه عن الخوف لم يقع منه معصية، فكيف والخوف حاصل له.
ومن هنا يتبين فساد قول المعربين: أن (لو) حرف امتناع لامتناع. والصواب أنها لا تعرض لها إلى امتناع الجواب، ولا إلى ثبوته، وإنما لها تعرض لامتناع الشرط، فإن لم يكن للجواب سبب سوى ذلك الشرط لزم من انتفائه انتفاؤه، نحو: لو كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا.
وإن كان له سبب آخر لم يلزم من انتفائه انتفاء الجواب، ولا ثبوته، نحو: لو كانت الشمس طالعة كان الضوء موجودا، ومنه: (لو لم يخف الله لم يعصه).
الأمر الثاني مما دلت عليه (لو) في المثال المذكور أن ثبوت المشيئة مستلزم لثبوت الرفع ضرورة، لأن المشيئة سبب، والرفع مسبب وهذان المعنيان قد تضمنتهما العبارة المذكورة.
الثاني: أن قد تكون حرف شرط في المستقبل، فيقال فيها: حرف شرط مرادف لـ(إن) إلا أنها لا تجزم، كقوله تعالى: ﴿وليخش الذين لو تركوا﴾. أي: إن تركوا، أي: شارفوا أن يتركوا. وقول الشاعر:
ولو تلتقـي أصداؤنـا بعد مـوتنا
ومن دون رمسينا من الأرض سبسب
لظل صدى صوتي وإن كنت رمة
لصـوت صدى ليلى يهش ويطـرب
الثالث: أن تكون حرفا مصدريا مرادفا لـ(أن)، إلا أنها لا تنصب، وأكثر وقوعها بعد (ود) نحو: ﴿ودوا لو تدهن﴾ أو (يود) نحو: ﴿يود أحدهم لو يعمر﴾. وأكثرهم لا يثبت هذا القسم، ويخرج الآية ونحوها على حذف مفعول الفعل قبلها، والجواب بعدها، أي: يود أحدهم التعمير لو يعمر ألف سنة لسره ذلك.
الرابع: أن تكون للتمني بمنزلة (ليت)، إلا أنها لا تنصب ولا ترفع، نحو: ﴿فلو أن لنا كرة﴾، أي: فليت لنا كرة، قيل: ولهذا نصب (فتكون) في جوابها، كما انتصب ﴿فأفوز﴾ في جواب ﴿ليت﴾ في قوله تعالى: ﴿يا ليتني كنت معهم فأفوز﴾. ولا دليل في هذا، لجواز أن يكون النصب في ﴿فأفوز﴾ مثله في قوله:
ولبس عباءة وتقر عيني
أحب إلي من لبس الشفوف
وقوله تعالى: ﴿أو يرسل رسولا﴾.
الخامس: أن تكون للعرض، نحو: لو تنزل عندنا فتصيب راحة، ذكره في (التسهيل).
وذكر لها ابن هشام اللخمي معنى آخر، وهو أن تكون للتقليل، نحو: «تصدقوا ولو بظلف محرق»، «واتقوا النار ولو بشق تمرة».
النوع السادس
ما يأتي علي سبعة أوجه
وهو: (قد)، فأحد أوجهها: أن تكون اسما بمعنى: (حسب)، فيقال: قدي بغير نون كما يقال: حسبي.
الثاني: أن تكون اسم فعل بمعنى: يكفي، فيقال: قدني، كما يقال: يكفيني.
الثالث: أن تكون حرف تحقيق، فتدخل على الماضي، نحو: ﴿قد أفلح من زكاها﴾، وعلى المضارع، نحو: ﴿قد يعلم ما أنتم عليه﴾.
الرابع: أن تكون حرف توقع، فتدخل عليهما أيضا. فتقول: قد يخرج زيد، فتدل على أن الخروج منتظر متوقع. وزعم بعضهم أنها لا تكون للتوقع مع الماضي، لأن التوقع انتظار الوقوع، والماضي قد وقع. وقال الذين أثبتوا معنى التوقع مع الماضي: إنها تدل على أنه كان منتظرا، تقول: قد ركب الأمير، لقوم ينتظرون هذا الخبر، ويتوقعون الفعل.
الخامس: تقريب الماضي من الحال، ولهذا تلزم (قد) مع الماضي الواقع حالا، إما ظاهرة، نحو: ﴿وقد فصل لكم ما حرم عليكم﴾. أو مقدرة، نحو: ﴿هذه بضاعتنا ردت إلينا﴾.
وقال ابن عصفور: إذا أجبت القسم بماض مثبت متصرف فإن كان قريبا من الحال جئت باللام وقد، نحو: بالله لقد قام زيد، وإن كان بعيدا جئت باللام فقط كقوله:
حلفت لها بالله حلفة فاجـر
لناموا فما إن من حديث ولا صالي
وزعم الزمخشري ـ عندما تكلم على قوله تعالى: ﴿لقد أرسلنا نوحا﴾ في سورة الأعراف ـ أن (قد) للتوقع، لأن السامع يتوقع الخبر عند سماع المقسم به.
السادس: التقليل، وهو ضربان: تقليل وقوع الفعل، نحو: قد يصدق الكذوب، وقد يجود البخيل. وتقليل متعلقه، نحو: ﴿قد يعلم ما أنتم عليه﴾ أي: أن ما هم عليه هو أقل معلوماته.
وزعم بعضهم أنها في ذلك للتحقيق كما تقدم، وأن التقليل في المثالين الأولين لم يستفد من قد، بل من قولك: البخيل يجود والكذوب يصدق، فإنه إن لم يحمل على أن صدور ذلك من البخيل، والكذوب قليل كان متناقضا، لأن آخر الكلام يدفع أوله.
السابع: التكثير، قاله سيبويه في قوله:
قد أترك القرن مصفرا أنامله
كأن أثوابه مجت بفرصاد
وقاله الزمخشري في قوله تعالى: ﴿قد نرى تقلب وجهك﴾.
النوع السابع
ما يأتي على ثمانية أوجه
وهو: (الواو)، وذلك أن لنا واوين يرتفع ما بعدهما، وهما: واو الاستئناف، نحو: ﴿لنبين لكم ونقر في الأرحام﴾. فإنها لو كانت واو العطف لانتصب الفعل.
وواو الحال، وتسمى واو الابتداء أيضا، نحو: جاءني زيد والشمس طالعة، وسيبويه يقدرها بـ(إذ).
وواوين ينتصب بعدهما، وهما:
واو المفعول معه، نحو: سرت والنيل.
وواو الجمع الداخلة على المضارع المسبوق بنفي، أو طلب، نحو: ﴿ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين﴾.
وقول أبي الأسود:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم
والكوفيون يسمون هذه واو الصرف.
وواوين ينجر ما بعدهما، وهما: واو القسم، نحو: ﴿والتين والزيتون﴾.
وواو (رب) كقوله:
وبلدة ليس بها أنيس
إلا اليعافير وإلا العيس
وواو يكون ما بعدها على حسب ما قبلها، وهي واو العطف.
وواوا يكون دخولها في الكلام كخروجها، وهي واو الزائدة، نحو: ﴿حتى إذا جاؤوها وفتحت عليها أبوابها﴾ بدليل الآية الأخرى.
وقيل: إنها عاطفة والجواب محذوف، والتقدير: كان كيت وكيت وقول جماعة: إنها واو الثمانية، وإن منها ﴿وثامنهم كلبهم﴾ لا يرضاه نحوي.
والقول بذلك في هذه وفي ﴿والناهون عن المنكر﴾ أبعد منه في آية الزمر.
والقول به في ﴿ثيبات وأبكارا﴾ ظاهر الفساد.
النوع الثامن
ما يأتي على اثني عشر وجها
وهو: (ما) فإنها على ضربين: اسمية، وأوجهها سبعة: معرفة تامة، نحو: ﴿فنعما هي﴾، أي فنعم الشيء إبداؤها.
ومعرفة ناقصة، وهي الموصولة، نحو: ﴿ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة﴾. أي: الذي عند الله خير.
وشرطية، نحو: ﴿وما تفعلوا من خير يعلمه الله﴾.
واستفهامية، نحو: ﴿وما تلك بيمينك يا موسى﴾.
ويجب حذف ألفها إذا كانت مجرورة، نحو: ﴿عم يتساءلون﴾، ﴿فناظرة بم يرجع المرسلون﴾، ولهذا رد الكسائي على المفسرين قولهم في ﴿بما غفر لي ربي﴾: إنها استفهامية.
وإنما جاز نحو: (لماذا فعلت)؟ لأن ألفها صارت حشوا بالتركيب مع (ذا)، فأشبهت الموصولة.
ونكرة تامة، وذلك في ثلاثة مواضع في كل منها خلاف:
أحدها: نحو: ﴿فنعما هي﴾، ونحو: نعم ما صنعت، أي: فنعم شيئا هي، ونعم شيئا شيء صنعته.
والثاني: قولهم: إني مما أن أفعل، أي: إني مخلوق من أمر هو فعلي كذا وكذا، وذلك على سبيل المبالغة، مثل قوله تعالى: ﴿خلق الإنسان من عجل﴾.
والثالث: قولهم في التعجب: ما أحسن زيدا، أي: شيء حسن زيدا، وهو قول سيبويه.
ونكرة موصوفة، كقولهم: مررت بما معجب لك، أي بشيء معجب، ومنه في قول: نعم ما صنعت، أي نعم شيئا صنعته، وما أحسن زيدا، أي: شيء موصوف بأنه حسن زيدا عظيم، بحذف الخبر. ونكرة موصوف بها، نحو: ﴿مثلا ما﴾، وقولهم: لأمر ما جدع قصير أنفه، أي: مثلا بالغا في الحقارة، ولأمر عظيم، وقيل: إن (ما) في هذه حرف لا موضع لها.
وحرفية، وأوجهها خمسة:
نافية، فتعمل في الجملة الاسمية عمل (ليس) في لغة الحجازيين، نحو: ﴿ما هذا بشرا﴾.
ومصدرية غير ظرفية، نحو: ﴿بما نسوا يوم الحساب﴾ أي: بنسيانهم إياه.
ومصدرية ظرفية، نحو: ﴿مادمت حيا﴾، أي: مدة دوامي حيا. وكافة عن العمل، وهي ثلاثة أقسام: كافة عن عمل الرفع، كقوله:
صددت فأطولت الصدود وقلما
وصال على طول الصدود يدوم
فـ(قل) فعل، و(ما) كافة عن طلب الفاعل، و(وصال) فاعل فعل محذوف يفسره الفعل المذكور، وهو (يدوم)، ولا يكون (وصال) مبتدأ، لأن الفعل المكفوف لا يدخل إلا على الجمل الفعلية. ولم يكف من الأفعال إلا: قل، وطال، وكثر.
وكافة عن عمل النصب والرفع، وذلك (في إن) وأخواتها، نحو: ﴿إنما الله إله واحد﴾.
وكافة عن عمل الجر، نحو: ﴿ربما يود الذين كفروا﴾ وقوله:
كما سيف عمرو لم تخنه مضاربه
(واختلف في لفظ (ما) التالية (بعد) كقوله:
أعلاقة أم الوليد بعدما
أفنان رأسك كالغثام المخلس
فقيل: كافة (بعد) عن الإضافة، وقيل: مصدرية.
وزائدة، وتسمى هي وغيرها من الحروف الزائدة صلة وتوكيدا، نحو: ﴿فبما رحمة من الله لنت لهم﴾، و﴿عما قليل ليصبحن نادمين﴾، أي: فبرحمة، وعن قليل. والله أعلم.
الباب الرابع
في الإشارات إلى عبارات محررة مستوفاة موجزة
ينبغي أن تقول في نحو: (ضرب) من (ضرب زيد): بأنه فعل ماض لم يسم فاعله. ولا تقل: مبني لما لم يسم فاعله، لما فيه من التطويل والخفاء. وأن تقول: في نحو: (زيد): نائب عن الفاعل. ولا تقل: مفعول لما لم يسم فاعله، لخفائه، وطوله، وصدقه على نحو: (درهما) من: (أعطي زيد درهما).
وأن تقول في (قد): حرف لتقليل زمن الماضي، وحدث المضارع، ولتحقيق حدثيهما.
وفي (لن): حرف نصب، ونفي، واستقبال.
وفي (لم): حرف جزم لنفي المضارع، وقلبه ماضيا.
وفي (أما): المفتوحة المشددة: حرف شرط، وتفصيل، وتوكيد.
وفي (أن): حرف مصدري ينصب المضارع.
وفي الفاء التي بعد الشرط: رابطة (لجواب) الشرط ولا تقل: جواب الشرط كما يقولون، لأن الجواب الجملة بأسرها، لا الفاء وحدها.
وفي نحو: (زيد) من (جلست أمام زيد): مخفوض بالإضافة، أو بالمضاف. ولا تقل: مخفوض بالظرف، لأن المقتضي للخفض هو الإضافة، أو المضاف من حيث هو مضاف، لا المضاف من حيث هو ظرف، بدليل: غلام زيد، وإكرام عمرو.
وفي الفاء في نحو: ﴿فصل لربك وانحر﴾: فاء السببية، ولا تقل: فاء العطف، لأنه لا يجوز، أو لا يحسن عطف الطلب على الخبر، ولا العكس.
وأن تقول في الواو العاطفة: حرف عطف لمجرد الجمع.
وفي (حتى): حرف عطف للجمع، والغاية.
وفي (ثم): حرف عطف للترتيب، والمهلة.
وفي (الفاء): حرف عطف للترتيب، والتعقيب.
وإذا اختصرت فيهن: (فقل) عاطف ومعطوف، كمل تقول: (في نحو بسم الله) جار ومجرور. وكذلك إذا اختصرت في نحو: ﴿لن نبرح﴾ وأن نفعل، (فقل): ناصب ومنصوب.
وأن تقول في (إن) المكسورة: حرف توكيد ينصب الاسم ويرفع الخبر، وتزيد في (أن) المفتوحة فتقول: حرف توكيد مصدري ينصب الاسم ويرفع الخبر.
واعلم أنه يعاب على الناشئ في صناعة الإعراب أن يذكر فعلا ولا يبحث عن فاعله، أو مبتدأ، ولا يتفحص عن خبره، أو ظرفا، أو مجرورا ولا ينبه على متعلقه، أو جملة، ولا يذكر ألها محل أم لا، أو موصولا ولا يبين صلته وعائده.
وأن يقتصر في إعراب الاسم من نحو: (قام ذا)، أو (قام الذي) على أن يقول: اسم إشارة، أو اسم موصول، فإن ذلك لا يقتضي إعرابا. والصواب أن يقال: فاعل وهو اسم إشارة، أو وهو اسم موصول.
فإن قلت: لا فائدة في قوله في نحو (ذا): إنه اسم إشارة، بخلاف قوله في (الذي): إنه اسم موصول، فإن فيه تنبيها على ما يفتقر إليه من الصلة والعائد، ليطلبهما المعرب، وليعلم أن الجملة
الصلة لا محل لها.
قلت: بلى فيه فائدة، وهي التنبيه إلى أن ما يلحقه من الكاف حرف خطاب، لا اسم مضاف إليه، وإلى أن الاسم الذي بعد (ذا) في نحو قولك: جاءني هذا الرجل، نعت، أو عطف بيان على الخلاف في المعرف بأل الواقع بعد اسم الإشارة، وبعد (أيها) في نحو: يا أيها الرجل.
ومما لا ينبني عليه إعراب أن يقول: في (غلام)، من نحو: (غلام زيد) مضاف، فإن المضاف ليس له إعراب مستقر، كما للفاعل، ونحوه. وإنما إعرابه بحسب ما يدخل عليه. فالصواب أن يقال: فاعل أو مفعول، ونحو ذلك. بخلاف المضاف إليه، فإن له إعرابا مستقر، وهو الجر، فإذا قيل: مضاف إليه علم أنه مجرور.
وينبغي أن يتجنب المعرب أن يقول في حرف في كتاب الله تعالى: إنه زائد، لأنه يسبق إلى الأذهان أن الزائد هو الذي لا معنى له، وكلام الله ـ سبحانه منزه عن ذلك.
وقد وقع هذا الوهم للإمام فخر الدين، فقال: (المحققون على أن المهمل لا يقع في كلام الله سبحانه، فأما (ما) في قوله تعالى: ﴿فبما رحمة﴾ فيمكن أن تكون استفهامية للتعجب، والتقدير: فبأي رحمة؟) انتهى.
والزائد عند النحويين معناه: الذي لم يؤت به إلا لمجرد التقوية، والتوكيد، لا المهمل.
والتوجيه المذكور في الآية باطل لأمرين: أحدهما: أن (ما) الاستفهامية إذا خفضت وجب حذف ألفها نحو: ﴿عم يتساءلون﴾.
الثاني:أن خفض ﴿رحمة﴾ حينئذ يشكل، لأنه لا يكون بالإضافة، إذ ليس في أسماء الاستفهام ما يضاف إلا (أي) عند الجميع، و(كم) عند الزجاج، ولا بالإبدال من (ما) لأن المبدل من اسم الاستفهام، لابد أن يقرن بهمزة الاستفهام، نحو: كيف أنت، أصحيح أم سقيم؟ ولا صفة لأن (ما) لا توصف إذا كانت شرطية، أو استفهامية. ولا بيانا لأن ما لا يوصف لا يعطف عليه عطف البيان كالمضمرات.
وكثير من المتقدمين يسمون الزائد صلة وبعضهم يسميه مؤكدا، وبعضهم يسميه مؤكدا، وبعضهم يسميه لغوا، لكن اجتناب هذه العبارة في التنزيل واجب.
وفي هذا القدر كفاية لمن تأمله
(كتب في ١٠ شهر رجب من شهور سنة ٩٧١)